الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الفاتحة: آية 1]: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)}..اللغة: {اسم} اختلف علماء اللغة في اشتقاق الاسم فذهب البصريّون إلى أنه من السّموّ وهو العلوّ وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من السّمة وهي العلامة وكلاهما صحيح من جهة المعنى وفيه خسس لغات: اسم بكسر الهمزة، واسم بضمها، وسم بكسر السين، وسم بضمها، وسمى بوزن هدى، هذا والاسم هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفاديا للابتداء بالسّاكن لسلامة لغتهم من كل لكنة وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء.{الله} علم لا يطلق إلا على المعبود بحقّ خاص لا يشركه فيه غيره وهو مرتجل غير مشتق عند الأكثرين واليه ذهب سيبويه في أحد قوليه فلا يجوز حذف الألف واللام منه وقيل: هو مشتق وإليه ذهب سيبويه أيضا ولهم في اشتقاقه قولان:آ- أن أصله إلاه على وزن فعال من قولهم: أله الرّجل يأله إلاهة أي عبد عبادة ثم حذفوا الهمزة تخفيفا لكثرة وروده واستعماله ثم أدخلت الألف واللام للتعظيم ودفع الشّيوع الذي ذهبوا إليه من تسمية أصنامهم وما يعبدونه آلهة من دون اللّه.ب- أن أصله لاه ثم أدخلت الألف واللام عليه واشتقاقه من لاه يليه إذا تستر كأنّه، سبحانه، يسمّى بذلك لاستتاره واحتجابه عن إدراك الأبصار وما أجمل قول الشريف الرّضي الشاعر:تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته، لاحتجابها بأنوار العظمة.وتحيّروا أيضا في لفظ الجلالة كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، فاختلفوا: أسريانيّ هو أم عربي؟ اسم أو صفة؟ مشتقّ وممّ اشتقاقه؟ وما أصله؟ أو غير مشتق؟ علم أو غير علم؟: {الرَّحْمنِ} صيغة فعلان في اللغة تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة كعطشان وغرثان.: {الرَّحِيمِ} صيغة فعيل تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة ولهذا لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر..الإعراب: {بِسْمِ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف والباء هنا للاستعانة أو للالصاق، وتقدير المحذوف أبتديء فالجار والمجرور في محل نصب مفعول به مقدم أو ابتدائي فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وكلاهما جيد و: {اللَّهِ} مضاف اليه و: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} صفتان للّه تعالى وجملة البسملة ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب..البلاغة: في البسملة طائفة من فنون البلاغة:آ- الأولى في متعلق بسم اللّه أن يكون فعلا مضارعا لأنه الأصل في العمل والتمسّك بالأصل أولى ولأنه يفيد التجدّد الاستمراري وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة وإذا كان المتعلق به اسما فإنه يفيد الديمومة والثبوت كأنما الابتداء باسم اللّه حتم دائم في كل ما نمارسه من عمل ونردده من قول.ب- الإيجاز بإضافة العام إلى الخاص ويسمى إيجاز قصر.ح- إذا جعلنا الباء للاستعانة فيكون في الكلام استعارة مكنية تبعية لتشبيهها بارتباط يصل بين المستعين والمستعان به وإذا جعلنا الباء للالصاق فيكون في الكلام مجاز علاقته المحلية نحو مررت بزيد أي يمكان يقرب منه لا يزيد نفسه..الفوائد الموجودة في البسملة: في البسملة فوائد لا يجوز الجهل بها ومنها:آ- اعلم أن البسملة آية من سورة الحمد وآية من أوائل كل سورة عند الشافعي وليست آية في كل ذلك عند مالك وعند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل هي آية من أول الفاتحة وليست آية في غير ذلك، والاحتجاج لذلك مبسوط في كتب الفقه والتفسير فارجع إليها.ب- لم يوصف بالرحمن في العربية بالألف واللام إلا اللّه تعالى، وقد نعتت العرب مسيلمة الكذاب به مضافا فقالوا: رحمان اليمامة.قال شاعر منهم يمدح مسيلمة:ح- تكتب بسم اللّه بغير ألف في البسملة خاصة استغناء عنها بباء الاستعانة بخلاف قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.د- تحذف الألف من الرحمن لدخول الألف واللام عليها.هـ- يقال لمن قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} مبسمل وهو ضرب من النحت اللغوي وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة: ومثل بسمل حوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا باللّه وهيلل إذا قال: لا إله إلا اللّه وسبحل إذا قال: سبحان اللّه وحمدل إذا قال: {الحمد للّه} وحيصل وحيعل إذا قال: حي على الصلاة وحي على الفلاح وجعفل إذا قال: جعلت فداك.هذا والنحت عند العرب خاص بالنسبة أي أنهم يأخذون اسمين فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه كقولهم: حضرميّ وعبقسيّ وعبشيّ نسبة إلى حضرموت وعبد القيس وعبد شمس على أن الفراء ذكر عن بعض العرب: معي عشرة فأحد هنّ لي أي صيرهنّ أحد عشر، وقال الفراء: معنى اللّهمّ: يا اللّه أمّنا بخير أي اقصدنا بخير فكثرت في كلام العرب ونحت العرب من اسمين فقيل عن الصّلدم إنه من الصّلد والصّدم ومنه بلحارث لبني الحارث ولعل الحقّلد وهو السّيء الخلق والثقيل الروح منحوت من الحقد والثقل ونحتوا من فعل وحرف فقالوا: الأزليّ وهو منحوت من لم يزل، ونحتوا من اسم وحرف فقالوا: من من لا شيء تلاشى ونحتوا من حرفين فقال الخليل: إن كلمة لن منحوتة من لا وأن وانها تضمّنت بعد تركيبها معنى لم يكن في أصليها مجتمعين وانما أوردنا هذه الأقوال، لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف كما رأيت، ولكننا استأنسنا بها لتتوافر هم المشتغلين باللّغة على النحت ففيه ثروة جديدة للغتنا وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها، فالنحت من أبرز الظواهو في اللغات الأجنبية الحديثة بفضل ما يلحق بالأصل من لواحق سابقة أو لاحقة، أو بفضل ما يعطونه للغتهم من مرونة حين يؤلفون كلمة جديدة من اسمين أو صفتين أو فعلين حى إذا تألفت الكلمة، وأعطت مدلولا خاصا سارت على الأفواه كل مسير، ومن أمثلة ذلك في اللغة الفرنسية قولهم المؤلف من فعل واسم- للمنديل المعد لتنشيف الأيدي وقولهم المؤلف من فعلين:- للإذن المكتوب للمرور وقولهم المؤلف من اسمين: لنوع من طير صغير وغيرها.و- كانت قريش قبل البعثة تكتب في أول كتبها: باسمك اللّهمّ وكان أميّة بن أبي الصّلت أول من كتب باسمك اللهم إلى أن جاء الإسلام ونزلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وروى محمد بن سعد في طبقاته أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكتب كما تكتب قريش:باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها} فكتب: باسم اللّه حتى نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} فكتب باسم اللّه الرحمن حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. .[سورة الفاتحة: الآيات 2- 7]: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)}..اللغة: {الْحَمْدُ} الثناء بالجميل والنداء عليه باللسان، والشكر هو الثناء على النعمة خاصة فبينهما عموم وخصوص: {رَبِّ} الرب: هو السيّد والمالك والثّابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم الصّاحب مستدلا بقوله:والمربي: الذي يسوس من يربيه ويدبره فهو اسم فاعل حذفت ألفه كما قيل: بارّ وبرّ وقيل: مصدر وصف به ويقيّد بالإضافة نحو رب الدّار من ربّه يربّه وقيل: هو صفة مشبّهة مصوغة من فعل متعدّ فلابد من تقديره لازما بالنقل إلى فعل بالضم: {الْعالَمِينَ} جمع عالم بفتح اللام وجمع جمع المذكر السالم العاقل تغليبا والمراد به جميع الكائنات ولذلك أدرجه النّحاة فيما ألحق بجمع المذكر والنّكتة فيه هي أن هذا اللفظ لا يطلق عند العرب على كل كائن وموجود كالحجر والتراب وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وان لم تكن منه فيقال: عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات والعالم لا واحد له من لفظه ولا من غير لفظه لأنه جمع لأشياء مختلفة: {الدِّينِ} الجزاء ويوم الدّين: يوم الجزاء ومنه قول العرب: كما تدين تدان وقول الشاعر: والدّين ايضا: الطاعة كقوله تعالى: {في دين الملك} والدّين أيضا: الملّة قال المثقّب العبديّ: {الصِّراطَ} الطّريق الواضح والمنهاج، قال جرير: وفي الصراط أربع لغات: السّراط بالسّين من سرط الشيء إذا بلعه وسمي الطريق سراطا لجريان الناس فيه كما يجري الشيء المبتلع والصراط وبالزاي خالصة وبإشمام الصاد الزاي وكل هذه اللغات قد قرئ به ويذكّر ويؤنّث وتذكيره أكثر. .الإعراب: {الْحَمْدُ} مبتدأ: {لِلَّهِ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {رَبِّ} صفة للّه أو بدل منه: {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء نيابه عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكّر السالم: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} صفتان للّه تعالى أيضا: {مالِكِ} صفة رابعة للّه وقرئ ملك وبينهما فرق دقيق وهو أن المالك هو ذو الملك بكسر الميم والملك ذو الملك بضمّها قال أهل النحو: إن ملكا أمدح من مالك وذلك أن المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا وجمع الملك أملاك وملوك وجمع المالك ملاك ومالكون: {يَوْمِ الدِّينِ} مضاف إليه: {إِيَّاكَ} ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدّم للاختصاص: {نَعْبُدُ} فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عطف على إياك نعبد ونستعين فعل مضارع مرفوع وهو معتلّ أجوف والأصل فيه نستعون فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى العين فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فصار نستعين: {اهْدِنَا} فعل أمر مبني على حذف العلّة وهو هنا بمعنى الدّعاء ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت: {الصِّراطَ} مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض لأنّ هدى لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد وتتعدى إلى الثاني باللام كقوله تعالى: {يهدي للتي هي أقوم} أو بإلى كقوله تعالى: {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} ولكن غلب عليها الاتّساع فعداها بعضهم إلى اثنين وقد نظم بعض الظرفاء أبياتا ضمّنها الأفعال التي تتعدى إلى واحد والى الثاني بحرف جر وهي:ومجموعها ستة عشر فعلا: {الْمُسْتَقِيمَ} صفة للصراط وهو معتلّ وعين الفعل فيه واو والأصل مستقوم فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى القاف فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها: {صِراطَ} بدل مطابق من الصراط: {الَّذِينَ} اسم موصول مضاف اليه في محل جر: {أَنْعَمْتَ} فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة أنعمت لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول: {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلقان بأنعمت: {غَيْرِ} بدل من الضّمير في عليهم أو من الذين أو نعت للذين وسيأتي بحث مسهب عن غير في باب الفوائد: {الْمَغْضُوبِ} مضاف اليه: {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل للمغضوب لأنه اسم مفعول: {وَلَا} الواو حرف عطف ولا زائدة لتأكيد معنى النفي وهو ما في غير من معنى النفي وهذه الزيادة مطّردة: {الضَّالِّينَ} معطوفة على المغضوب عليهم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم. .البلاغة: اشتملت هذه السورة، على قصرها، على أفانين متعددة من البلاغة ندرجها فيما يلي:1- جملة {الحمد للّه} خبر لكنها استعملت لإنشاء الحمد وفائدة الجملة الاسمية ديمومة الحمد واستمراره وثباته.2- في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} فنّ التّقديم فقد قدّم الضمير لحصر العبادة والاستعانة باللّه وحده، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة ثمرتها وإعادة إياك مع الفعل الثاني تفيد أن كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر ولأن الكاف التي مع إيّا هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل أعني بقوله نعبد لو كانت مؤخرة بعد الفعل وهي كناية عن اسم المخاطب المنصوب بالفعل فكثّرت بإيّا متقدمة وكان الأفصح إعادتها مع كل فعل.
|